فصل: تفسير الآيات رقم (68 - 69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


الجزء السابع

سورة يس

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 4‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يس ‏(‏1‏)‏ وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏3‏)‏ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏يس‏}‏ و‏"‏ن‏"‏ قرأ بإخفاء النون فيهما‏:‏ ابن عامر والكسائي وأبو بكر‏.‏ قالون‏:‏ يخفي النون من ‏"‏يس‏"‏ ويظهر من ‏"‏ن‏"‏، والباقون يظهرون فيهما‏.‏

واختلفوا في تأويل ‏{‏يس‏}‏ حسب اختلافهم في حروف التهجي، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هو قسم، ويروى عنه أن معناه‏:‏ يا إنسان بلغة طيء، يعني‏:‏ محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهو قول الحسن، وسعيد بن جبير، وجماعة‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ يا رجل‏.‏ وقال أبو بكر الوراق‏:‏ يا سيد البشر‏.‏

‏{‏وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏{‏إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏، أقسم بالقرآن أن محمدًا صلى الله عليه وسلم من المرسلين، وهو رد على الكفار حيث قالوا‏:‏ ‏"‏لست مرسلا‏"‏ ‏[‏الرعد - 43‏]‏‏.‏ ‏{‏عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏، وهو خبر بعد خبر، أي‏:‏ أنه من المرسلين وأنه على صراط مستقيم‏.‏ وقيل‏:‏ معناه إنك لمن المرسلين الذين هم على صراط مستقيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 8‏]‏

‏{‏تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ‏(‏5‏)‏ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ‏(‏6‏)‏ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ‏(‏7‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏تَنزيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ‏}‏، قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص‏:‏ ‏"‏تنزيل‏"‏ بنصب اللام كأنه قال‏:‏ نزل تنزيلا وقرأ الآخرون بالرفع، أي‏:‏ هو تنزيل العزيز الرحيم‏.‏ ‏{‏لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ‏}‏، قيل‏:‏ ‏"‏ما‏"‏ للنفي أي‏:‏ لم ينذر آباؤهم، لأن قريشا لم يأتهم نبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ ‏"‏ما‏"‏ بمعنى الذي، أي‏:‏ لتنذر قومًا بالذي أنذر آباؤهم، ‏{‏فَهُمْ غَافِلُونَ‏}‏ عن الإيمان والرشد‏.‏ ‏{‏لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ‏}‏، وجب العذاب ‏{‏عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏، هذا كقوله‏:‏ ‏"‏ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين‏"‏ ‏[‏الزمر - 71‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا‏}‏، نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين، وذلك أن أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمدًا يصلي ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه، فلما رفعه أثبتت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده، فلما عاد إلى أصحابه فأخبرهم بما رأى سقط الحجر، فقال رجل من بني مخزوم‏:‏ أنا أقتله بهذا الحجر، فأتاه وهو يصلي ليرميه بالحجر، فأعمى الله تعالى بصره، فجعل يسمع صوته ولا يراه، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه فقالوا له‏:‏ ما صنعت‏؟‏ فقال‏:‏ ما رأيته، ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه شيء كهيئة الفحل يخطر بذنبه، لو دنوت منه لأكلني، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ‏"‏ قال أهل المعاني‏:‏ هذا على طريق المثل، ولم يكن هناك غل، أراد‏:‏ منعناهم عن الإيمان بموانع، فجعل الأغلال مثلا لذلك‏.‏ قال الفراء‏:‏ معناه إنا حبسناهم عن الإنفاق في سبيل الله كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك‏"‏ ‏[‏الإسراء - 29‏]‏ معناه‏:‏ لا تمسكها عن النفقة‏.‏

‏{‏فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ‏}‏، ‏"‏هي‏"‏ كناية عن الأيدي - وإن لم يجر لها ذكر - لأن الغل يجمع اليد إلى العنق، معناه‏:‏ إنا جعلنا في أيديهم وأعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان، ‏{‏فَهُمْ مُقْمَحُونَ‏}‏ والمقمح‏:‏ الذي رفع رأسه وغض بصره، يقال‏:‏ بعير قامح إذا روى من الماء، فأقمح إذا رفع رأسه وغض بصره‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ أراد أن أيديهم لما غلت إلى أعناقهم رفعت الأغلال أذقانهم ورؤسهم، فهم مرفوعو الرؤوس برفع الأغلال إياها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9 - 12‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ‏(‏9‏)‏ وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ‏(‏10‏)‏ إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ‏(‏11‏)‏ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا‏}‏، قرأ حمزة والكسائي وحفص‏:‏ ‏"‏سدا‏"‏ بفتح السين، وقرأ الآخرون بضمها، ‏{‏فَأَغْشَيْنَاهُم‏}‏ فأعميناهم، من التغشية وهي التغطية، ‏{‏فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ‏}‏ سبيل الهدى‏.‏

‏{‏وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏{‏إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ‏}‏، يعني‏:‏ إنما ينفع إنذارك من اتبع الذكر، يعني القرآن، فعمل بما فيه، ‏{‏وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ‏}‏ حسن وهو الجنة‏.‏ ‏{‏إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى‏}‏، عند البعث، ‏{‏وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا‏}‏ من الأعمال من خير وشر، ‏{‏وَآثَارَهُم‏}‏ أي‏:‏ ما سنوا من سنة حسنة أو سيئة‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من سن في الإسلام سنة حسنة يعمل بها من بعده كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا‏"‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏ونكتب ما قدموا وآثارهم‏"‏ أي‏:‏ خطاهم إلى المسجد‏.‏ روي عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ شكت بنو سلمة بعد منازلهم من المسجد فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏ونكتب ما قدموا وآثارهم‏"‏‏.‏ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، حدثنا أبو سعيد محمد بن عيسى الصيرفي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا محمد بن هشام بن ملاس النميري، حدثنا مروان الفزاري، حدثنا حميد، عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ ‏"‏أرادت بنو سلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعرى المدينة، فقال‏:‏ يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم‏؟‏ فأقاموا‏"‏‏.‏ وأخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا أبو أسامة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بردة، عن أبي موسى قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشًى والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجرًا من الذي يصلي ثم ينام‏"‏‏.‏ قوله تعالى ‏{‏وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ‏}‏ حفظناه وعددناه وبيناه، ‏{‏فِي إِمَامٍ مُبِينٍ‏}‏ وهو اللوح المحفوظ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ‏}‏ يعني‏:‏ اذكر لهم شبها مثل حالهم من قصة أصحاب القرية وهي أنطاكية، ‏{‏إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ رسل عيسى عليه الصلاة والسلام‏.‏

قال العلماء بأخبار الأنبياء‏:‏ بعث عيسى رسولين من الحواريين إلى أهل مدينة أنطاكية فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار، صاحب يس فسلما عليه، فقال الشيخ لهما‏:‏ من أنتما‏؟‏ فقالا رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، فقال‏:‏ أمعكما آية‏؟‏ قالا نعم نحن نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، فقال الشيخ‏:‏ إن لي ابنًا مريضًا منذ سنين، قالا فانطلق بنا نطلع على حاله، فأتى بهما إلى منزله، فمسحا ابنه، فقام في الوقت - بإذن الله - صحيحًا، ففشا الخبر في المدينة، وشفى الله تعالى على أيديهما كثيرًا من المرضى، وكان - لهم ملك قال وهب‏:‏ اسمه انطيخس - وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام، قالوا‏:‏ فانتهى الخبر إليه فدعاهما، فقال‏:‏ من أنتما‏؟‏ قالا رسولا عيسى، قال‏:‏ وفيم جئتما‏؟‏ قالا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة من يسمع ويبصر، فقال‏:‏ لكما إله دون آلهتنا‏؟‏ قالا نعم، من أوجدك وآلهتك‏.‏ قال‏:‏ قوما حتى أنظر في أمركما، فتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في السوق‏.‏

قال وهب‏:‏ بعث عيسى هذين الرجلين إلى أنطاكية، فأتياها فلم يصلا إلى ملكها، وطال مدة مقامهما فخرج الملك ذات يوم فكبرا وذكرا الله، فغضب الملك وأمر بهما فحبسا وجلد كل واحد منهما مائة جلدة، قالوا‏:‏ فلما كذب الرسولان وضربا، بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على إثرهما لينصرهما، فدخل شمعون البلد متنكرا، فجعل يعاشر حاشية الملك حتى أنسوا به، فرفعوا خبره إلى الملك فدعاه فرضي عشرته وأنس به وأكرمه، ثم قال له ذات يوم‏:‏ أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك، فهل كلمتهما وسمعت قولهما‏؟‏ فقال الملك‏:‏ حال الغضب بيني وبين ذلك‏.‏ قال‏:‏ فإن رأى الملك دعاهما حتى نطلع على ما عندهما، فدعاهما الملك، فقال لهما شمعون‏:‏ من أرسلكما إلى هاهنا‏؟‏ قالا الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال لهما شمعون‏:‏ ‏[‏فصفاه وأوجزا، فقالا إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فقال شمعون‏]‏‏:‏ وما آيتكما‏؟‏ قالا ما تتمناه، فأمر الملك حتى جاؤوا بغلام مطموس العينين وموضع عينيه كالجبهة، فما زالا يدعوان ربهما حتى انشق موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين، فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين يبصر بهما، فتعجب الملك، فقال شمعون للملك‏:‏ إن أنت سألت إلهك حتى يصنع صنعًا مثل هذا فيكون لك الشرف ولإلهك‏.‏ فقال الملك‏:‏ ليس لي عنك سر إن إلهنا الذي نعبده لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويصلي كثيرًا، ويتضرع حتى ظنوا أنه على ملتهم، فقال الملك للرسولين‏:‏ إن قدر إلهكم الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما، قالا إلهنا قادر على كل شيء، فقال الملك‏:‏ إن هاهنا ميتا مات منذ سبعة أيام ابن لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه، وكان غائبا فجاؤوا بالميت وقد تغير وأروح فجعلا يدعوان ربهما علانية، وجعل شمعون يدعو ربه سرًّا، فقام الميت، وقال‏:‏ إني قدمت منذ سبعة أيام مشركا فأدخلت في سبعة أودية من النار، وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا بالله، ثم قال‏:‏ فتحت لي أبواب السماء فنظرت فرأيت شابًّا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك‏:‏ ومن الثلاثة‏؟‏ قال‏:‏ شمعون وهذان وأشار إلى صاحبيه، فتعجب الملك، فلما علم شمعون أن قوله أثر في الملك أخبره بالحال، ودعاه فآمن الملك وآمن قوم، وكفر آخرون‏.‏

وقيل‏:‏ إن ابنة للملك كانت قد توفيت ودفنت، فقال شمعون للملك‏:‏ اطلب من هذين الرجلين أن يحييا ابنتك، فطلب منهما الملك ذلك فقاما وصليا ودعوا وشمعون معهما في السر، فأحيا الله المرأة وانشق القبر عنها فخرجت، وقالت‏:‏ أسلموا فإنهما صادقان، قالت‏:‏ ولا أظنكم تسلمون، ثم طلبت من الرسولين أن يرداها إلى مكانها فذرا ترابًا على رأسها وعادت إلى قبرها كما كانت‏.‏

وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب‏:‏ بل كفر الملك، وأجمع هو وقومه على قتل الرسل فبلغ ذلك حبيبا، وهو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم يذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين، فذلك قوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ‏}‏ قال وهب‏:‏ اسمهما يوحنا وبولس، ‏{‏فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا‏}‏ يعني‏:‏ فقوينا، ‏{‏بِثَالِثٍ‏}‏ برسول ثالث، وهو شمعون، وقرأ أبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏"‏فعززنا‏"‏ بالتخفيف وهو بمعنى الأول كقولك‏:‏ شددنا وشددنا بالتخفيف والتثقيل، وقيل‏:‏ أي‏:‏ فغلبنا من قولهم‏:‏ من عز بز‏.‏ وقال كعب‏:‏ الرسولان‏:‏ صادق وصدوق، والثالث شلوم، وإنما أضاف الله الإرسال إليه لأن عيسى عليه السلام إنما بعثهم بأمره تعالى، ‏{‏فَقَالُوا‏}‏ جميعا لأهل أنطاكية، ‏{‏إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 20‏]‏

‏{‏قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ ‏(‏15‏)‏ قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ ‏(‏16‏)‏ وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ‏(‏17‏)‏ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏18‏)‏ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏19‏)‏ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ‏}‏ ما أنتم إلا كاذبون فيما تزعمون‏.‏ ‏{‏قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ‏}‏ ‏{‏وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ‏}‏

‏{‏قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ‏}‏ تشاءمنا بكم، وذلك أن المطر حبس عنهم، فقالوا‏:‏ أصابنا هذا بشؤمكم، ‏{‏لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ‏}‏ لنقتلنكم، وقال قتادة‏:‏ بالحجارة ‏{‏وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏ ‏{‏قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ شؤمكم معكم بكفركم وتكذيبكم يعني‏:‏ أصابكم الشؤم من قبلكم‏.‏ وقال ابن عباس والضحاك‏:‏ حظكم من الخير والشر ‏{‏أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ وعظتم بالله، وهذا استفهام محذوف الجواب مجازه‏:‏ إن ذكرتم ووعظتم بالله تطيرتم بنا‏.‏ وقرأ أبو جعفر‏:‏ ‏"‏أن‏"‏ بفتح الهمزة الملينة ‏"‏ذكرتم‏"‏ بالتخفيف ‏{‏بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ‏}‏ مشركون مجاوزون الحد‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى‏}‏ وهو حبيب النجار، وقال السدي‏:‏ كان قصارًا وقال وهب‏:‏ كان رجلا يعمل الحرير، وكان سقيما قد أسرع فيه الجذام، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة، وكان مؤمنا ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين فيطعم نصفا لعياله ويتصدق بنصف، فلما بلغه أن قومه قصدوا قتل الرسل جاءهم ‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21 - 24‏]‏

‏{‏اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏22‏)‏ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ ‏(‏23‏)‏ إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ‏}‏ قال قتادة‏:‏ كان حبيب في غار يعبد ربه فلما بلغه خبر الرسل أتاهم فأظهر دينه، فلما انتهى حبيب إلى الرسل قال لهم‏:‏ تسألون على هذا أجرًا‏؟‏ قالوا‏:‏ لا فأقبل على قومه فقال‏:‏ ‏"‏يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون‏"‏، فلما قال ذلك قالوا له‏:‏ وأنت مخالف لديننا ومتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم‏؟‏ فقال‏:‏

‏{‏وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ قرأ حمزة ويعقوب‏:‏ ‏"‏مالي‏"‏ بإسكان الياء، والآخرون بفتحها‏.‏ قيل‏:‏ أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم، لأن الفطرة أثر النعمة، وكانت عليه أظهر، وفي الرجوع معنى الزجر وكان بهم أليق‏.‏

وقيل‏:‏ إنه لما قال‏:‏ اتبعوا المرسلين، أخذوه فرفعوه إلى الملك، فقال له الملك‏:‏ أفأنت تتبعهم‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ومالي لا أعبد الذي فطرني‏"‏ وأي شيء لي إذا لم أعبد الخالق ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم‏.‏

‏{‏أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً‏}‏ استفهام بمعنى الإنكار، أي‏:‏ لا أتخذ من دونه آلهة، ‏{‏إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ‏}‏ بسوء ومكروه، ‏{‏لا تُغْنِ عَنِّي‏}‏ لا تدفع عني، ‏{‏شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا‏}‏ أي‏:‏ لا شفاعة لها أصلا فتغني ‏{‏وَلا يُنْقِذُونِ‏}‏ من ذلك المكروه وقيل‏:‏ لا ينقذون من العذاب لو عذبني الله إن فعلت ذلك‏.‏ ‏{‏إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏ خطأ ظاهر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25 - 29‏]‏

‏{‏إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ ‏(‏25‏)‏ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏27‏)‏ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ ‏(‏28‏)‏ إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ‏}‏ يعني‏:‏ فاسمعوا مني، فلما قال ذلك وثب القوم عليه وثبة رجل واحد فقتلوه‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره‏.‏

قال السدي‏:‏ كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول‏:‏ اللهم اهد قومي، حتى قطعوه وقتلوه‏.‏

وقال الحسن‏:‏ خرقوا خرقا في حلقة فعلقوه بسور من سور المدينة، وقبره بأنطاكية فأدخله الله الجنة، وهو حي فيها يرزق، فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ‏}‏، فلما أفضى إلى الجنة ‏{‏قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي‏}‏ يعني‏:‏ بغفران ربي لي، ‏{‏وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ‏}‏ تمنى أن يعلم قومه أن الله غفر له وأكرمه، ليرغبوا في دين الرسل‏.‏

فلما قتل حبيب غضب الله له وعجل لهم النقمة، فأمر جبريل عليه السلام فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم، فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنزلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة، ‏{‏وَمَا كُنَّا مُنزلِينَ‏}‏ وما كنا نفعل هذا، بل الأمر في إهلاكهم كان أيسر مما يظنون‏.‏

وقيل‏:‏ معناه ‏"‏وما أنزلنا على قومه من بعده‏"‏ أي‏:‏ على قوم حبيب النجار من بعد قتله من جند، وما كنا ننزلهم على الأمم إذا أهلكناهم، كالطوفان والصاعقة والريح‏.‏ ثم بين عقوبتهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً‏}‏، ‏[‏وقرأ أبو جعفر‏:‏ صيحة واحدة‏]‏ بالرفع، جعل الكون بمعنى الوقوع‏.‏

قال المفسرون‏:‏ أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة، ثم صاح بهم صيحة واحدة ‏{‏فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ‏}‏ ميتون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30 - 33‏]‏

‏{‏يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏30‏)‏ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ ‏(‏31‏)‏ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ‏(‏32‏)‏ وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ‏}‏ قال عكرمة‏:‏ يعني يا حسرتهم على أنفسهم، والحسرة‏:‏ شدة الندامة، وفيه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ يا حسرة وندامة وكآبة على العباد يوم القيامة حين لم يؤمنوا بالرسل‏.‏

والآخر‏:‏ أنه من قول الهالكين‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ لما عاينوا العذاب قالوا‏:‏ يا حسرة أي‏:‏ ندامة على العباد، يعني‏:‏ على الرسل الثلاثة حيث لم يؤمنوا بهم، فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم‏.‏

قال الأزهري‏:‏ الحسرة لا تدعى، ودعاؤها تنبيه المخاطبين‏.‏ وقيل العرب تقول‏:‏ يا حسرتي‏!‏ ويا عجبًا‏!‏ على طريق المبالغة، والنداء عندهم بمعنى التنبيه، فكأنه يقول‏:‏ أيها العجب هذا وقتك‏؟‏ وأيتها الحسرة هذا أوانك‏؟‏

حقيقة المعنى‏:‏ أن هذا زمان الحسرة والتعجب‏.‏ ثم بين سبب الحسرة والندامة، فقال‏:‏ ‏{‏مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَرَوْا‏}‏ ألم يخبروا، يعني‏:‏ أهل مكة ‏{‏كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ‏}‏ والقرن‏:‏ أهل كل عصر، سموا بذلك لاقترانهم في الوجود ‏{‏أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يعودون إلى الدنيا فلا يعتبرون بهم‏.‏

‏{‏وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ‏}‏ قرأ عاصم وحمزة‏:‏ ‏"‏لما‏"‏ بالتشديد هاهنا وفي الزخرف والطارق، ووافق ابن عامر إلا في الزخرف، ووافق أبو جعفر في الطارق، وقرأ الآخرون بالتخفيف‏.‏ فمن شدد جعل ‏"‏إن‏"‏ بمعنى الجحد، و‏"‏لما‏"‏ بمعنى إلا تقديره‏:‏ وما كل إلا جميع، ومن خفف جعل ‏"‏إن‏"‏ للتحقيق و‏"‏ما‏"‏ صلة مجازه‏:‏ وكل جميع ‏{‏لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا‏}‏ بالمطر ‏{‏وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا‏}‏ يعني الحنطة والشعير وما أشبههما ‏{‏فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ‏}‏ أي‏:‏ من الحب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 38‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ‏(‏34‏)‏ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ ‏(‏35‏)‏ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ ‏(‏36‏)‏ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ‏}‏ بساتين، ‏{‏مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا‏}‏ في الأرض، ‏{‏مِنَ الْعُيُونِ‏}‏‏.‏

‏{‏لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ‏}‏ أي‏:‏ من الثمر الحاصل بالماء ‏{‏وَمَا عَمِلَتْه‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر‏:‏ ‏"‏عملت‏"‏ بغير هاء، وقرأ الآخرون ‏"‏عملته‏"‏ بالهاء أي‏:‏ يأكلون من الذي عملته ‏{‏أَيْدِيهِم‏}‏ الزرع والغرس فالهاء عائدة إلى ‏"‏ما‏"‏ التي بمعنى الذي‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏ما‏"‏ للنفي في قوله ‏"‏ما عملته‏"‏ أي‏:‏ وجدوها معمولة ولم تعملها أيديهم ولا صنع لهم فيها وهذا معنى قول الضحاك ومقاتل‏.‏

وقيل‏:‏ أراد العيون والأنهار التي لم تعملها يد خلق مثل دجلة والفرات والنيل ونحوها‏.‏

‏{‏أَفَلا يَشْكُرُونَ‏}‏ نعمة الله‏.‏

‏{‏سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا‏}‏ أي‏:‏ الأصناف ‏{‏مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ‏}‏ الثمار والحبوب ‏{‏وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ الذكور والإناث ‏{‏وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ‏}‏ مما خلق من الأشياء من دواب البر والبحر‏.‏

‏{‏وَآيَةٌ لَهُمُ‏}‏ تدل على قدرتنا، ‏{‏اللَّيْلُ نَسْلَخُ‏}‏ ننزع ونكشط ‏{‏مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ‏}‏ داخلون في الظلمة، ومعناه‏:‏ نذهب النهار ونجيء بالليل، وذلك أن الأصل هي الظلمة والنهار داخل عليها ُ فإذا غربت الشمس سلخ النهار من الليلُ فتظهر الظلمة‏.‏

‏{‏وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا‏}‏ أي‏:‏ إلى مستقر لها، أي‏:‏ إلى انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وقيام الساعة‏.‏

وقيل‏:‏ إنها تسير حتى تنتهي إلى أبعد مغاربها، ثم ترجع فذلك مستقرها لأنها لا تجاوزه‏.‏

وقيل‏:‏ مستقرها نهاية ارتفاعها في السماء في الصيف ونهاية هبوطها في الشتاء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏مستقرها تحت العرش‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، حدثتا الحميدي، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏مستقرها تحت العرش‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا الحميدي، أخبرنا وكيع، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس‏:‏ ‏"‏أتدري أين تذهب‏"‏‏؟‏ قلت‏:‏ الله ورسوله أعلم قال‏:‏ ‏"‏فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها فيقال لها‏:‏ ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏‏.‏

وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏والشمس تجري لا مستقر لها‏"‏ وهي قراءة ابن مسعود أي‏:‏ لا قرار لها ولا وقوف فهي جارية أبدا ‏{‏ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39 - 40‏]‏

‏{‏وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ‏(‏39‏)‏ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ‏}‏ أي‏:‏ قدرنا له منازل قرأ ابن كثير ونافع، وأهل البصرة‏:‏ ‏"‏القمر‏"‏ برفع الراء لقوله‏:‏ ‏"‏وآية لهم الليل نسلخ منه النهار‏"‏ وقرأ الآخرون بالنصب لقوله‏:‏ ‏"‏قدرناه‏"‏ أي‏:‏ قدرنا القمر ‏{‏مَنَازِل‏}‏ وقد ذكرنا أسامي المنازل في سورة يونس فإذا صار القمر إلى آخر المنازل دق فذلك قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ‏}‏ والعرجون‏:‏ ‏[‏عود العذق‏]‏ الذي عليه الشماريخ، فإذا قدم وعتق يبس وتقوس واصفر فشبه القمر في دقته وصفرته في آخر المنازل به‏.‏ ‏{‏لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ‏}‏ أي‏:‏ لا يدخل النهار على الليل قبل انقضائه، ولا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ‏}‏ أي‏:‏ هما يتعاقبان بحساب معلوم لا يجيء أحدهما قبل وقته‏.‏

وقيل‏:‏ لا يدخل أحدهما في سلطان الآخر، لا تطلع الشمس بالليل ولا يطلع القمر بالنهار وله ضوء، فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد منهما صاحبه قامت القيامة‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر‏"‏ أي‏:‏ لا تجتمع معه في فلك واحد، ‏"‏ولا الليل سابق النهار‏"‏ أي‏:‏ لا يتصل ليل بليل لا يكون بينهما نهار فاصل‏.‏

‏{‏وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ‏}‏ يجرون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41 - 45‏]‏

‏{‏وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ‏(‏41‏)‏ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ‏(‏42‏)‏ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ‏(‏43‏)‏ إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ‏(‏44‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ‏}‏ قرأ أهل المدينة والشام، ويعقوب‏:‏ ‏"‏ذرياتهم‏"‏ جمع وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏ذريتهم‏"‏ على التوحيد، فمن جمع كسر التاء، ومن لم يجمع نصبها، والمراد بالذرية‏:‏ الآباء والأجداد، واسم الذرية يقع على الآباء كما يقع على الأولاد ‏{‏فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ‏}‏ أي‏:‏ المملوء، وأراد سفينة نوح عليه السلام، وهؤلاء من نسل من حمل مع نوح، وكانوا في أصلابهم‏.‏ ‏{‏وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ‏}‏ قيل‏:‏ أراد به السفن الصغار التي عملت بعد سفينة نوح على هيئتها‏.‏

وقيل‏:‏ أراد به السفن التي تجري في الأنهار فهي في الأنهار كالفلك الكبار في البحار، وهذا قول قتادة، والضحاك وغيرهما‏.‏

وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ‏"‏وخلقنا لهم من مثله ما يركبون‏"‏ يعني‏:‏ الإبل، فالإبل في البر كالسفن في البحر‏.‏ ‏{‏وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ‏}‏ أي‏:‏ لا مغيث ‏{‏لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ‏}‏ ينجون من الغرق‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ولا أحد ينقذهم من عذابي‏.‏ ‏{‏إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ‏}‏ إلى انقضاء آجالهم يعني إلا أن يرحمهم ويمتعهم إلى آجالهم‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏ما بين أيديكم‏"‏ يعني الآخرة، فاعملوا لها، ‏"‏وما خلفكم‏"‏ يعني الدنيا، فاحذروها، ولا تغتروا بها‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏ما بين أيديكم‏"‏ وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأمم، ‏"‏وما خلفكم‏"‏ عذاب الآخرة، وهو قول قتادة ومقاتل‏.‏

‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ والجواب محذوف تقديره‏:‏ إذا قيل لهم هذا أعرضوا عنه دليله ما بعده‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46 - 49‏]‏

‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ‏(‏46‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ‏(‏47‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏48‏)‏ مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ‏}‏ أي‏:‏ دلالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ‏}‏ أعطاكم الله ‏{‏قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ‏}‏ أنرزق ‏{‏مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ‏}‏ وذلك أن المؤمنين قالوا لكفار مكة‏:‏ أنفقوا على المساكين مما زعمتم من أموالكم أنه لله، وهو ما جعلوا لله من حروثهم وأنعامهم، قالوا‏:‏ أنطعم أنرزق من لو يشاء الله رزقه، ثم لم يرزقه مع قدرته عليه، فنحن نوافق مشيئة الله فلا نطعم من لم يطعمه الله، وهذا مما يتمسك به البخلاء، يقولون‏:‏ لا نعطي من حرمه الله‏.‏ وهذا الذي يزعمون باطل؛ لأن الله أغنى بعض الخلق وأفقر بعضهم ابتلاء، فمنع الدنيا من الفقير لا بخلا وأمر الغني بالإنفاق لا حاجة إلى ماله، ولكن ليبلو الغني بالفقير فيما فرض له في مال الغني، ولا اعتراض لأحد على مشيئة الله وحكمه في خلقه ‏{‏إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏ يقول الكفار للمؤمنين‏:‏ ما أنتم إلا في خطأ بين في اتباعكم محمدا صلى الله عليه وسلم وترك ما نحن عليه‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ‏}‏ أي‏:‏ القيامة والبعث ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَنْظُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما ينتظرون ‏{‏إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد النفخة الأولى ‏{‏تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يختصمون في أمر الدنيا من البيع والشراء، ويتكلمون في المجالس والأسواق‏.‏

قرأ حمزة‏:‏ ‏"‏يخصمون‏"‏ بسكون الخاء وتخفيف الصاد، أي‏:‏ يغلب بعضهم بعضا بالخصام، وقرأ الآخرون بتشديد الصاد، أي‏:‏ يختصمون‏.‏ أدغمت التاء في الصاد، ثم ابن كثير ويعقوب وورش يفتحون الخاء بنقل حركة التاء المدغمة إليها، ويجزمها أبو جعفر وقالون ويروم فتحة الخاء أبو عمرو، وقرأ الباقون بكسر الخاء‏.‏

وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة وقد رفع الرجل أكلته إلى فيه فلا يطعمها‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50 - 53‏]‏

‏{‏فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏50‏)‏ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ‏(‏51‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ‏(‏52‏)‏ إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً‏}‏ أي‏:‏ لا يقدرون على الإيصاء‏.‏ قال مقاتل‏:‏ عجلوا عن الوصية فماتوا ‏{‏وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ينقلبون، والمعنى أن الساعة لا تمهلهم لشيء‏.‏ ‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ‏}‏ وهي النفخة الأخيرة نفخة البعث، وبين النفختين أربعون سنة ‏{‏فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ‏}‏ يعني‏:‏ القبور واحدها‏:‏ جدث ‏{‏إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ‏}‏ يخرجون من القبور أحياء، ومنه قيل للولد‏:‏ نسل لخروجه من بطن أمه‏.‏

‏{‏قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا‏}‏ قال أبي بن كعب، وابن عباس، وقتادة‏:‏ إنما يقولون هذا لأن الله تعالى يرفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون فإذا بعثوا بعد النفخة الأخيرة وعاينوا القيامة دعوا بالويل‏.‏

وقال أهل المعاني‏:‏ إن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار عذاب القبر في جنبها كالنوم، فقالوا‏:‏ يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا‏؟‏ ثم قالوا‏:‏ ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ‏}‏ ‏[‏أقروا حين لم ينفعهم الإقرار‏.‏ وقيل‏:‏ قالت الملائكة لهم‏:‏ ‏"‏هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون‏"‏‏.‏

قال مجاهد‏:‏ يقول الكفار‏:‏ ‏"‏من بعثنا من مرقدنا‏"‏‏؟‏ فيقول المؤمنون‏:‏ ‏"‏هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون‏"‏‏.‏ ‏{‏إِنْ كَانَتْ‏}‏ ما كانت ‏{‏إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً‏}‏ يعني‏:‏ النفخة الآخرة ‏{‏فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54 - 58‏]‏

‏{‏فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏54‏)‏ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ ‏(‏55‏)‏ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ ‏(‏56‏)‏ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ ‏(‏57‏)‏ سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏فاليومَ لا تُظلمُ نفسٌ شيئًا ولا تُجزونَ إلا ما كنتم تعملون‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ‏}‏ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ‏"‏في شغل‏"‏، بسكون الغين، والباقون بضمها، وهما لغتان مثل السُّحْت والسُّحُت‏.‏

واختلفوا في معنى الشغل، قال ابن عباس‏:‏ في افتضاض الأبكار، وقال وكيع بن الجراح‏:‏ في السماع‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ في شغل عن أهل النار وعما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ شغلوا بما في الجنة من النعيم عما فيه أهل النار من العذاب‏.‏

وقال ابن كيسان‏:‏ في زيارة بعضهم بعضا‏.‏ وقيل‏:‏ في ضيافة الله تعالى‏.‏

‏{‏فَاكِهُون‏}‏ قرأ أبو جعفر‏:‏ ‏"‏فكهون‏"‏ حيث كان، وافقه حفص في المطففين؛ وهما لغتان مثل‏:‏ الحاذر والحذر أي‏:‏ ناعمون‏.‏ قال‏:‏ مجاهد والضحاك‏:‏ معجبون بما هم فيه‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ فرحون‏.‏

‏{‏هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ حلائلهم ‏{‏فِي ظِلالٍ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏ظلل‏"‏ بضم الظاء من غير ألف جمع ظله وقرأ العامة‏:‏ ‏"‏في ظلال‏"‏ بالألف وكسر الظاء على جمع ظل ‏{‏عَلَى الأرَائِكِ‏}‏ يعني السرر في الحجال، واحدتها‏:‏ أريكة‏.‏ قال ثعلب‏:‏ لا تكون أريكة حتى يكون عليها حجلة ‏{‏مُتَّكِئُون‏}‏ ذوو اتكاء‏.‏

‏{‏لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ‏}‏ يتمنون ويشتهون‏.‏

‏{‏سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ يسلم الله عليهم قولا أي‏:‏ يقول الله لهم قولا‏.‏

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن، حدثني أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى الملحمي الأصفهاني، أخبرنا الحسن بن أبي علي الزعفراني، أخبرنا ابن أبي الشوارب، أخبرنا أبو عاصم العباداني، أخبرنا الفضل الرقاشي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم، فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال‏:‏ السلام عليكم يا أهل الجنة، فذلك قوله‏:‏ ‏"‏سلام قولا من رب رحيم‏"‏ فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ تسلم عليهم الملائكة من ربهم‏.‏

قال مقاتل‏:‏ تدخل الملائكة على أهل الجنة من كل باب يقولون‏:‏ سلام عليكم يا أهل الجنة من ربكم الرحيم‏.‏

وقيل‏:‏ يعطيهم السلامة، يقول‏:‏ اسلموا السلامة الأبدية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59 - 62‏]‏

‏{‏وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ‏(‏59‏)‏ أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏60‏)‏ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ اعتزلوا اليوم من الصالحين‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ تميزوا‏.‏ وقال السدي‏:‏ كونوا على حدة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ انفردوا عن المؤمنين‏.‏ قال الضحاك‏:‏ إن لكل كافر في النار بيتًا يدخل ذلك البيت ويردم بابه بالنار فيكون فيه أبد الآبدين لا يرى ولا يرى‏.‏

‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ‏}‏ ألم آمركم يا بني آدم ‏{‏أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ‏}‏ أي‏:‏ لا تطيعوا الشيطان في معصية الله ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏ ظاهر العداوة‏.‏

‏{‏وَأَنِ اعْبُدُونِي‏}‏ أطيعوني ووحدوني ‏{‏هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا‏}‏ قرأ أهل المدينة، وعاصم‏:‏ ‏"‏جبلا‏"‏ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام، وقرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏جبلا‏"‏ بضم الجيم والباء وتشديد اللام، وقرأ ابن عامر، وأبو عمرو بضم الجيم ساكنة الباء خفيفة، وقرأ الآخرون بضم الجيم والباء خفيفة، وكلها لغات، ومعناها‏:‏ الخلق والجماعة أي‏:‏ خلقا كثيرًا ‏{‏أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ‏}‏ ما أتاكم من هلاك الأمم الخالية بطاعة إبليس، ويقال لهم لما دنوا من النار‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63 - 65‏]‏

‏{‏هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏63‏)‏ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏64‏)‏ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ بها في الدنيا ‏{‏اصْلَوْهَا‏}‏ ادخلوها ‏{‏الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ هذا حين ينكر الكفار كفرهم وتكذيبهم الرسل، فيختم على أفواههم وتشهد عليهم جوارحهم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو الحسن محمد بن عمرو بن حفصويه السرخسي، سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، أخبرنا أبو يزيد حاتم بن محبوب، أخبرنا عبد الجبار بن العلاء، أخبرنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال‏:‏ سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏هل تضارون في رؤية الشمس في الظهيرة ليست في سحاب‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ لا يا رسول الله، قال‏:‏ ‏"‏فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس في سحابة‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ ‏"‏فوالذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم كما لا تضارون في رؤية أحدهما‏"‏، قال‏:‏ ‏"‏فيلقى العبد فيقول‏:‏ أي عبدي ألم أكرمك‏؟‏ ألم أسودك ألم أزوجك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك تترأس وتتربع‏؟‏ قال‏:‏ بلى يا رب قال‏:‏ فظننت أنك ملاقي‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ فاليوم أنساك كما نسيتني، قال‏:‏ فيلقى الثاني فيقول‏:‏ ألم أكرمك، ألم أسودك، ألم أزوجك، ألم أسخر لك الخيل والإبل وأتركك تترأس وتتربع‏؟‏ - وقال غيره عن سفيان‏:‏ ترأس وتربع في الموضعين - قال‏:‏ فيقول‏:‏ بلى يا رب، فيقول‏:‏ ظننت أنك ملاقي‏؟‏ فيقول‏:‏ لا يا رب قال‏:‏ فاليوم أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول‏؟‏ ما أنت‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك وصليت وصمت وتصدقت ويثني بخير ما استطاع قال‏:‏ فيقال له‏:‏ ألم نبعث عليك شاهدنا‏؟‏ قال‏:‏ فيتفكر في نفسه من الذي يشهد عليَّ فيختم على فيه ويقال لفخذه‏:‏ انطقي قال‏:‏ فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل وذلك المنافق وذلك ليعذر من نفسه وذلك الذي سخط الله عليه‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدي أبو سهل عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن بهز بن حكيم بن معاوية، عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنكم تدعون فيفدم على أفواهكم بالفدام فأول ما يسأل عن أحدكم فخذه وكفه‏"‏ أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن الحجاج، أخبرنا أبو بكر بن أبي النضر، حدثني هاشم بن القاسم، أخبرنا عبد الله الأشجعي، عن سفيان الثوري، عن عبيد المكتب، عن فضيل، عن الشعبي، عن أنس بن مالك قال‏:‏ كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقال‏:‏ ‏"‏هل تدرون مم أضحك‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ قلنا الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ ‏"‏من مخاطبة العبد ربه‏"‏ يقول‏:‏ يا رب ألم تجرني من الظلم‏؟‏ قال‏:‏ فيقول‏:‏ بلى، قال‏:‏ فيقول‏:‏ فإني لا أجير على نفسي إلا شاهدا مني، قال‏:‏ فيقول‏:‏ كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال‏:‏ فيختم على فيه، فيقال لأركانه‏:‏ انطقي قال‏:‏ فتنطق بأعماله، قال‏:‏ ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول‏:‏ بعدا لَكُنَّ وسحقًا فعنكن كنت أناضل‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66 - 67‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ‏(‏66‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ أذهبنا أعينهم‏]‏ الظاهرة بحيث لا يبدو لها جفن ولا شق، وهو معنى الطمس كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم‏"‏ ‏[‏البقرة - 20‏]‏ يقول‏:‏ كما أعمينا قلوبهم لو شئنا أعمينا أبصارهم الظاهرة ‏{‏فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ‏}‏ فتبادروا إلى الطريق ‏{‏فَأَنَّى يُبْصِرُونَ‏}‏ فكيف يبصرون ‏[‏وقد أعمينا أعينهم‏؟‏ يعني‏:‏ لو نشاء لأضللناهم عن الهدى، وتركناهم عميا يترددون، فكيف يبصرون‏]‏ الطريق حينئذ‏؟‏ هذا قول الحسن والسدي، وقال ابن عباس، وقتادة، ومقاتل، وعطاء‏:‏ معناه لو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم فأعميناهم عن غيهم، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى فأبصروا رشدهم ‏{‏فَأَنَّى يُبْصِرُونَ‏}‏ ولم أفعل ذلك بهم‏؟‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ مكانهم‏:‏ يريد‏:‏ لو نشاء لجعلناهم قردة وخنازير في منازلهم، وقيل‏:‏ لو نشاء لجعلناهم حجارة، وهم قعود في منازلهم لا أرواح لهم‏.‏ ‏{‏فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ‏}‏ إلى ما كانوا عليه، وقيل‏:‏ لا يقدرون على ذهاب ولا رجوع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68 - 69‏]‏

‏{‏وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ ‏(‏68‏)‏ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ‏}‏ قرأ عاصم وحمزة‏:‏ ‏"‏ننكسه‏"‏ بالتشديد، وقرأ الآخرون بفتح النون الأولى وضم الكاف مخففا، أي‏:‏ نرده إلى أرذل العمر شبه الصبي في أول الخلق‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏ننكسه في الخلق‏"‏ أي‏:‏ نضعف جوارحه بعد قوتها ونردها إلى نقصانها بعد زيادتها‏.‏ ‏{‏أَفَلا يَعْقِلُونَ‏}‏ فيعتبروا ويعلموا أن الذي قدر على تصريف أحوال الإنسان يقدر على البعث بعد الموت‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ إن كفار مكة قالوا‏:‏ إن محمدًا شاعر، وما يقوله شعر، فأنزل الله تكذيبًا لهم‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ‏}‏ أي‏:‏ ما يتسهل له ذلك، وما كان يتزن له بيت من شعر، حتى إذا تمثل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرًا‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسين بن محمد الثقفي، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت‏:‏ كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيًا فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله إنما قال الشاعر‏:‏

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا ‏[‏ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهيًا‏]‏، فقال أبو بكر وعمر‏:‏ أشهد أنك رسول الله، يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ‏}‏ أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم البغوي، أخبرنا علي بن الجعد، حدثنا شريك، عن المقدام بن شريح، عن أبيه قال‏:‏ قلت لعائشة‏:‏ أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر‏؟‏ قالت‏:‏ كان يتمثل من شعر عبد الله بن رواحة‏.‏

قالت‏:‏ وربما قال‏:‏ ويأتيك بالأخبار من لم تُزَوِّدِ وقال معمر عن قتادة‏:‏ بلغني أن عائشة سئلت‏:‏ هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر‏؟‏ قالت‏:‏ كان الشعر أبغض الحديث إليه، قالت‏:‏ ولم يتمثل بشيء من الشعر إلا ببيت أخي بني قيس طرفة‏:‏

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود

فجعل يقول‏:‏ ‏"‏ويأتيك من لم تزود بالأخبار‏"‏ فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ ليس هكذا يا رسول الله، فقال‏:‏ ‏"‏إني لست بشاعر ولا ينبغي لي‏"‏‏.‏

‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏إِلا ذِكْرٌ‏}‏ موعظة ‏{‏وَقُرْآنٌ مُبِينٌ‏}‏ فيه الفرائض والحدود والأحكام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70 - 72‏]‏

لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏70‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ‏(‏71‏)‏ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏لِيُنْذِر‏}‏ قرأ أهل المدينة والشام ويعقوب ‏"‏لتنذر‏"‏ بالتاء وكذلك في الأحقاف، ‏[‏وافق ابن كثير في الأحقاف‏]‏ أي‏:‏ لتنذر يا محمد، وقرأ الآخرون بالياء أي لينذر القرآن ‏{‏مَنْ كَانَ حَيًّا‏}‏ يعني‏:‏ مؤمنا حي القلب؛ لأن الكافر كالميت في أنه لا يتدبر ولا يتفكر ‏{‏وَيَحِقَّ الْقَوْلُ‏}‏ ويجب حجة العذاب ‏{‏عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏}‏ تولينا خلقه بإبداعنا من غير إعانة أحد ‏{‏أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏}‏ ضابطون قاهرون، أي‏:‏ لم يخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها، بل هي مسخرة لهم‏.‏

وهي قوله‏:‏ ‏{‏وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ‏}‏ سخرناها لهم ‏{‏فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما يركبون وهي الإبل ‏{‏وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ‏}‏ من لحمانها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73 - 77‏]‏

‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ ‏(‏73‏)‏ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏74‏)‏ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ ‏(‏75‏)‏ فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ‏(‏76‏)‏ أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ‏}‏ من أصوافها وأوبارها وأشعارها ونسلها ‏{‏وَمَشَارِب‏}‏ من ألبانها ‏{‏أَفَلا يَشْكُرُونَ‏}‏ رب هذه النعم‏.‏

‏{‏وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ لتمنعهم من عذاب الله، ولا يكون ذلك قط‏.‏

‏{‏لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لا تقدر الأصنام على نصرهم ومنعهم من العذاب‏.‏ ‏{‏وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ الكفار جند للأصنام يغضبون لها ويحضرونها في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيرا، ولا تستطيع لهم نصرا‏.‏ وقيل‏:‏ هذا في الآخرة، يؤتى بكل معبود من دون الله تعالى ومعه أتباعه الذين عبدوه كأنهم جند محضرون في النار‏.‏

‏{‏فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قول كفار مكة في تكذيبك ‏{‏إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ‏}‏ في ضمائرهم من التكذيب ‏{‏وَمَا يُعْلِنُونَ‏}‏ من عبادة الأصنام أو ما يعلنون بألسنتهم من الأذى‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ‏}‏ جدل بالباطل ‏{‏مُبِين‏}‏ بين الخصومة، يعني‏:‏ إنه مخلوق من نطفة ثم يخاصم فكيف لا يتفكر في بدء خلقه حتى يدع الخصومة‏.‏

نزلت في أبي بن خلف الجمحي خاصم النبي صلى الله عليه وسلم في إنكار البعث، وأتاه بعظم قد بلي ففتته بيده، وقال‏:‏ أترى يحيى الله هذا بعد ما رَمَّ‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نعم ويبعثك ويدخلك النار‏"‏ فأنزل الله هذه الآيات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78 - 82‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ‏(‏78‏)‏ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ‏(‏79‏)‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ ‏(‏80‏)‏ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ‏(‏81‏)‏ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ‏}‏ بدء أمره، ثم ‏{‏قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ‏}‏ بالية، ولم يقل رميمة؛ لأنه معدول عن فاعلة، وكل ما كان معدولا عن وجهه ووزنه كان مصروفًا عن أخواته، كقوله‏:‏ ‏"‏وما كانت أمك بغيا‏"‏ ‏[‏مريم - 28‏]‏، أسقط الهاء لأنها كانت مصروفة عن باغية‏.‏

‏{‏قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا‏}‏ خلقها، ‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هما شجرتان يقال لأحدهما‏:‏ المرخ وللأخرى‏:‏ العفار، فمن أراد منهم النار قطع منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء، فيسحق المرخ على العفار فيخرج منهما النار بإذن الله عز وجل‏.‏

تقول العرب‏:‏ في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار، وقال الحكماء‏:‏ في كل شجر نار إلا العناب‏.‏ ‏{‏فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ‏}‏ أي‏:‏ تقدحون وتوقدون النار من ذلك الشجر، ثم ذكر ما هو أعظم من خلق الإنسان، فقال‏:‏ ‏{‏أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِر‏}‏ قرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏يقدر‏"‏ بالياء على الفعل ‏{‏عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى‏}‏ أي‏:‏ قل‏:‏ بلى، هو قادر على ذلك ‏{‏وَهُوَ الْخَلاقُ‏}‏ ‏[‏يخلق خلقا بعد خلق‏]‏، ‏{‏الْعَلِيم‏}‏ بجميع ما خلق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو الطاهر الزيادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، حدثنا علي بن الحسين الدرابجردي، حدثنا عبد الله بن عثمان، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان - وليس بالنهدي - عن معقل بن يسار قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اقرؤوا على موتاكم سورة يس‏"‏ ورواه محمد بن العلاء عن ابن المبارك، وقال‏:‏ عن أبي عثمان وليس بالنهدي عن أبيه عن معقل بن يسار‏.‏

سورة الصافات

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ‏(‏1‏)‏ فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏وَالصَّافَّاتِ صَفًّا‏}‏ قال ابن عباس، والحسن، وقتادة‏:‏ هم الملائكة في السماء يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة‏.‏

أخبرنا عمر بن عبد العزيز القاشاني، أخبرنا أبو عمر القاسم بن جعفر الهاشمي، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي، حدثنا زهير قال‏:‏ سألت سليمان الأعمش عن حديث جابر بن سمرة في الصفوف المقدمة فحدثنا عن المسيب بن رافع عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربهم‏"‏‏؟‏ قلنا‏:‏ وكيف تصف الملائكة عند ربهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يتمون الصفوف المقدمة ويتراصون في الصف‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ هم الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد‏.‏

وقيل‏:‏ هي الطيور، دليله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏والطير صافات‏"‏ ‏[‏النور - 41‏]‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة تزجر السحاب وتسوقه، وقال قتادة‏:‏ هي زواجر القرآن تنهى وتزجر عن القبائح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 6‏]‏

‏{‏فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ‏(‏3‏)‏ إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ ‏(‏4‏)‏ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ ‏(‏5‏)‏ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا‏}‏ هم الملائكة يتلون ذكر الله عز وجل‏.‏ وقيل‏:‏ هم جماعة قراء القرآن وهذا كله قسم أقسم الله تعالى به، وموضع القسم قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ‏}‏ وقيل‏:‏ فيه إضمار، أي‏:‏ ورب الصافات والزاجرات والتاليات، وذلك أن كفار مكة قالوا‏:‏ ‏"‏أجعل الآلهة إلها واحدا‏"‏‏؟‏ فأقسم الله بهؤلاء‏:‏ ‏"‏إن إلهكم لواحد‏"‏‏.‏

‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ‏}‏ أي‏:‏ مطالع الشمس ‏[‏قيل‏:‏ أراد به المشارق والمغارب، كما قال في موضع آخر‏:‏ ‏"‏فلا أقسم برب المشارق والمغارب‏"‏ ‏[‏المعارج - 40‏]‏ فإن قيل‏:‏ قد قال في موضع‏:‏ ‏"‏برب المشارق والمغارب‏"‏، وقال في موضع‏:‏ ‏"‏رب المشرقين ورب المغربين‏"‏ ‏[‏الرحمن - 17‏]‏ وقال في موضع‏:‏ ‏"‏رب المشرق والمغرب‏"‏ ‏[‏المزمل - 9‏]‏، فكيف وجه التوفيق بين هذه الآيات‏؟‏

قيل‏:‏ أما قوله‏:‏ ‏"‏رب المشرق والمغرب‏"‏، أراد به الجهة، فالمشرق جهة والمغرب جهة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏رب المشرقين ورب المغربين‏"‏ أراد‏:‏ مشرق الشتاء ومشرق الصيف، وأراد بالمغربين‏:‏ مغرب الشتاء ومغرب الصيف‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏برب المشارق والمغارب‏"‏ أراد الله تعالى أنه خلق للشمس ثلثمائة وستين كوة في المشرق، وثلثمائة وستين كوة في المغرب، على عدد أيام السنة، تطلع الشمس كل يوم من كوة منها، وتغرب في كوة منها، لا ترجع إلى الكوة التي تطلع منها إلى ذلك اليوم من العام المقبل، فهي المشارق والمغارب، وقيل‏:‏ كل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه الشمس فهو مغرب، كأنه أراد رب جميع ما أشرقت عليه الشمس وغربت‏.‏ ‏{‏إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ‏}‏

قرأ عاصم، برواية أبي بكر‏:‏ ‏"‏بزينة‏"‏ منونة ‏"‏الكواكب‏"‏ نصب، أي‏:‏ بتزييننا الكواكب، وقرأ حمزة، وحفص‏:‏ ‏"‏بزينة‏"‏ منونة، ‏"‏الكواكب‏"‏ خفضا على البدل، أي‏:‏ بزينة بالكواكب، أي‏:‏ زيناها بالكواكب‏.‏ وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏بزينة الكواكب‏"‏، بلا تنوين على الإضافة‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ بضوء الكواكب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 11‏]‏

‏{‏وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ‏(‏7‏)‏ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ‏(‏8‏)‏ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ‏(‏9‏)‏ إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ‏(‏10‏)‏ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَحِفْظًا‏}‏ أي‏:‏ وحفظناها حفظا ‏{‏مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ‏}‏ متمرد يرمون بها‏.‏ ‏{‏لا يَسْمَعُونَ‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي، وحفص‏:‏ ‏"‏يسمعون‏"‏ بتشديد السين والميم، أي‏:‏ لا يتسمعون، فأدغمت التاء في السين، وقرأ الآخرون بسكون السين خفيف الميم، ‏{‏إِلَى الْمَلإ الأعْلَى‏}‏ أي‏:‏ إلى الكتبة من الملائكة‏.‏

و‏"‏الملأ الأعلى‏"‏ هم الملائكة لأنهم في السماء، ومعناه‏:‏ أنهم لا يستطيعون الاستماع إلى الملأ الأعلى، ‏{‏وَيُقْذَفُونَ‏}‏ يرمون، ‏{‏مِنْ كُلِّ جَانِبٍ‏}‏ من آفاق السماء بالشهب‏.‏ ‏{‏دُحُورًا‏}‏ يبعدونهم عن مجالس الملائكة، يقال‏:‏ دحره دحرا ودحورا، إذا طرده وأبعده، ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ‏}‏

دائم، قال مقاتل‏:‏ دائم إلى النفخة الأولى، لأنهم يحرقون ويتخبلون‏.‏ ‏{‏إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ‏}‏ اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة، ‏{‏فَأَتْبَعَهُ‏}‏ لحقه، ‏{‏شِهَابٌ ثَاقِبٌ‏}‏

كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقتله، أو يحرقه أو يخبله، وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه طمعا في السلامة ونيل المراد، كراكب البحر، قال عطاء‏:‏ سمي النجم الذي يرمى به الشياطين ثاقبا لأنه يثقبهم‏.‏

‏{‏فَاسْتَفْتِهِم‏}‏ أي‏:‏ سلهم، يعني‏:‏ أهل مكة، ‏{‏أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا‏}‏ يعني‏:‏ من السموات والأرض والجبال، وهذا استفهام بمعنى التقرير، أي‏:‏ هذه الأشياء أشد خلقا كما قال‏:‏ ‏"‏لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس‏"‏ ‏[‏غافر - 57‏]‏ وقال‏:‏ ‏"‏أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها‏"‏ ‏[‏النازعات - 27‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏أم من خلقنا‏"‏ يعني‏:‏ من الأمم الخالية، لأن ‏"‏من‏"‏ يذكر فيمن يعقل، يقول‏:‏ إن هؤلاء ليسوا بأحكم خلقا من غيرهم من الأمم، وقد أهلكناهم بذنوبهم فما الذي يؤمن هؤلاء من العذاب‏؟‏ ثم ذكر خلق الإنسان، فقال‏:‏

‏{‏إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ‏}‏ يعني‏:‏ جيد حر لاصق يعلق باليد، ومعناه اللازم، أبدل الميم باء كأنه يلزم اليد‏.‏ وقال مجاهد والضحاك‏:‏ منتن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 15‏]‏

‏{‏بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ‏(‏12‏)‏ وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ ‏(‏13‏)‏ وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ‏(‏14‏)‏ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ عَجِبْتَ‏}‏ قرأ حمزة، والكسائي‏:‏ بضم التاء، وهي قراءة ابن مسعود، وابن عباس والعجب من الله عز وجل ليس كالتعجب من الآدميين، كما قال‏:‏ ‏"‏فيسخرون منهم سخر الله منهم‏"‏ ‏[‏التوبة - 79‏]‏، وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏نسوا الله فنسيهم‏"‏ ‏[‏التوبة - 67‏]‏، فالعجب من الآدميين‏:‏ إنكاره وتعظيمه، والعجب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذم، وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏عجب ربكم من شاب ليست له صبوة‏"‏‏.‏

وجاء في الحديث‏:‏ ‏"‏عجب ربكم من سؤالكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم‏"‏ وسئل الجنيد عن هذه الآية، فقال‏:‏ إن الله لا يعجب من شيء، ولكن الله وافق رسوله لما عجب رسوله فقال‏:‏ ‏"‏وإن تعجب فعجب قولهم‏"‏ ‏[‏الرعد - 5‏]‏ أي‏:‏ هو كما تقوله‏.‏

وقرأ الآخرون بفتح التاء على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أي‏:‏ عجبت من تكذيبهم إياك، ‏{‏وَيَسْخَرُونَ‏}‏ من تعجبك‏.‏

قال قتادة‏:‏ عجب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن حين أنزل وضلال بني آدم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يظن أن كل من يسمع القرآن يؤمن به، فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به، فعجب من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى‏:‏ ‏"‏بل عجبت ويسخرون‏"‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ إذا وعظوا بالقرآن لا يتعظون‏.‏

‏{‏وَإِذَا رَأَوْا آيَةً‏}‏ قال ابن عباس ومقاتل‏:‏ يعني انشقاق القمر ‏{‏يَسْتَسْخِرُونَ‏}‏ يسخرون ويستهزءون، وقيل‏:‏ يستدعي بعضهم عن بعض السخرية‏.‏

‏{‏وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ‏}‏ ‏[‏يعني سحر بين‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 24‏]‏

‏{‏أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ‏(‏16‏)‏ أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ ‏(‏17‏)‏ قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ ‏(‏18‏)‏ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏19‏)‏ وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏20‏)‏ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ‏(‏21‏)‏ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏22‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ‏(‏23‏)‏ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ‏}‏

‏{‏أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ‏}‏ أي‏:‏ وآباؤنا الأولون‏.‏

‏{‏قُلْ نَعَمْ‏}‏ تبعثون، ‏{‏وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ‏}‏ صاغرون، والدخور أشد الصغار‏.‏

‏{‏فَإِنَّمَا هِيَ‏}‏ أي‏:‏ قصة البعث أو القيامة، ‏{‏زَجْرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ صيحة، ‏{‏وَاحِدَة‏}‏ يعني‏:‏ نفخة البعث، ‏{‏فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ‏}‏ أحياء‏.‏

‏{‏وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ‏}‏ أي‏:‏ يوم الحساب ويوم الجزاء‏.‏

‏{‏هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ‏}‏ يوم القضاء، وقيل‏:‏ يوم الفصل بين المحسن والمسيء، ‏{‏الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ أي‏:‏ أشركوا، اجمعوهم إلى الموقف للحساب والجزاء، ‏{‏وَأَزْوَاجَهُم‏}‏ أشباههم وأتباعهم وأمثالهم‏.‏

قال قتادة والكلبي‏:‏ كل من عمل مثل عملهم، فأهل الخمر مع أهل الخمر، وأهل الزنا مع أهل الزنا‏.‏

وقال الضحاك ومقاتل‏:‏ قرناءهم من الشياطين، كل كافر مع شيطانه في سلسلة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ وأزواجهم المشركات‏.‏

‏{‏وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ من دُونِ الله‏}‏ في الدنيا، يعني‏:‏ الأوثان والطواغيت‏.‏ وقال‏:‏ مقاتل‏:‏ يعني إبليس وجنوده، واحتج بقوله‏:‏ ‏"‏أن لا تعبدوا الشيطان‏"‏ ‏[‏يس - 60‏]‏‏.‏

‏{‏فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ دلوهم إلى طريق النار‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ قدموهم‏.‏ والعرب تسمي السابق هاديا‏.‏

‏{‏وَقِفُوهُمْ‏}‏ احبسوهم، يقال‏:‏ وقفته وقفا فوقف وقوفا‏.‏

قال المفسرون‏:‏ لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط لأن السؤال عند الصراط، فقيل‏:‏

وقفوهم ‏{‏إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عن جميع أقوالهم وأفعالهم‏.‏

وروي عنه عن‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربعة أشياء‏:‏ عن شبابه فيما أبلاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25 - 29‏]‏

‏{‏مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ ‏(‏25‏)‏ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ ‏(‏26‏)‏ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا تتناصرون، يقال لهم توبيخًا‏:‏ ما لكم لا ينصر بعضكم بعضًا، يقول لهم خزنة النار، هذا جواب لأبي جهل حين قال يوم بدر‏:‏ ‏"‏نحن جميع منتصر‏"‏ ‏[‏القمر - 44‏]‏‏.‏

فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ خاضعون‏.‏ وقال الحسن‏:‏ منقادون، يقال‏:‏ استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع له، والمعنى‏:‏ هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم‏.‏

‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ أي‏:‏ الرؤساء والأتباع ‏{‏يتساءلون‏}‏ يتخاصمون‏.‏

‏{‏قَالُوا‏}‏ أي‏:‏ الأتباع للرؤساء، ‏{‏إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ‏}‏ أي‏:‏ من قبل الدين فتضلوننا عنه ‏[‏وتروننا أن الدين ما تضلوننا به‏]‏ قاله الضحاك‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ عن الصراط الحق، واليمين عبارة عن الدين والحق، كما أخبر الله تعالى عن إبليس‏:‏ ‏"‏ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم‏"‏ ‏[‏الأعراف - 17‏]‏ فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ كان الرؤساء يحلفون لهم أن ما يدعونهم إليه هو الحق، فمعنى قوله‏:‏ ‏"‏تأتوننا عن اليمين‏"‏ أي‏:‏ من ناحية الأيمان التي كنتم تحلفونها فوثقنا بها‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏عن اليمين‏"‏ أي‏:‏ عن القوة والقدرة، كقوله‏:‏ ‏"‏لأخذنا منه باليمين‏"‏ ‏[‏الحاقة - 45‏]‏، والمفسرون على القول الأول‏.‏

‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني‏:‏ الرؤساء للأتباع، ‏{‏بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ لم تكونوا على الحق فنضلكم عنه، أي‏:‏ إنما الكفر من قبلكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30 - 41‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ ‏(‏30‏)‏ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ ‏(‏31‏)‏ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ ‏(‏32‏)‏ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ‏(‏33‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ‏(‏34‏)‏ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏35‏)‏ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ‏(‏36‏)‏ بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ ‏(‏38‏)‏ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏39‏)‏ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏40‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ‏}‏ من قوة وقدرة فنقهركم على متابعتنا، ‏{‏بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ‏}‏ ضالين‏.‏

‏{‏فَحَقَّ‏}‏ وجب، ‏{‏عَلَيْنَا‏}‏ جميعا، ‏{‏قَوْلُ رَبِّنَا‏}‏ يعني‏:‏ كلمة العذاب، وهي قوله‏:‏ ‏"‏لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين‏"‏ ‏[‏السجدة - 13‏]‏ ‏{‏إِنَّا لَذَائِقُونَ‏}‏ العذاب، أي‏:‏ أن الضال والمضل جميعا في النار‏.‏

‏{‏فَأَغْوَيْنَاكُم‏}‏ فأضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه ‏{‏إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ‏}‏ ضالين‏.‏ قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ‏}‏ الرؤساء والأتباع‏.‏

‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الذين جعلوا لله شركاء‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ يتكبرون عن كلمة التوحيد، ويمتنعون منها‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ‏}‏ يعنون النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الله عز وجل ردا عليهم‏:‏ ‏{‏بَلْ جَاءَ‏}‏ محمد، ‏{‏بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ أي‏:‏ أنه أتى بما أتى به المرسلون قبله‏.‏

‏{‏إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الألِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا من الشرك‏.‏

‏{‏إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ الموحدين‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ‏}‏ يعني‏:‏ بكرة وعشيا ‏[‏كما قال‏:‏ ‏"‏ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا‏"‏ ‏[‏مريم - 62‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42 - 49‏]‏

‏{‏فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ ‏(‏42‏)‏ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏43‏)‏ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏44‏)‏ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ ‏(‏45‏)‏ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ ‏(‏46‏)‏ لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ ‏(‏47‏)‏ وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ ‏(‏48‏)‏ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَاكِهُ‏}‏ جمع الفاكهة، وهي الثمار كلها رطبها ويابسها، وهي كل طعام يؤكل للتلذذ لا للقوت، ‏{‏وَهُمْ مُكْرَمُونَ‏}‏ بثواب الله‏.‏

‏{‏فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ‏}‏ لا يرى بعضهم قفا بعض‏.‏

‏{‏يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ‏}‏ إناء فيه شراب ولا يكون كأسا حتى يكون فيه شراب، وإلا فهو إناء، ‏{‏مِنْ مَعِينٍ‏}‏ خمر جارية في الأنهار ظاهرة تراها العيون‏.‏

‏{‏بَيْضَاءَ‏}‏ قال الحسن‏:‏ خمر الجنة أشد بياضًا من اللبن، ‏{‏لَذَّة‏}‏ أي‏:‏ لذيذة، ‏{‏لِلشَّارِبِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏لا فِيهَا غَوْلٌ‏}‏ قال الشعبي‏:‏ لا تغتال عقولهم فتذهب بها‏.‏ قال الكلبي‏:‏ إثم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ وجع البطن‏.‏ وقال الحسن‏:‏ صداع‏.‏

وقال أهل المعاني‏:‏ ‏"‏الغول‏"‏ فساد يلحق في خفاء، يقال‏:‏ اغتاله اغتيالا إذا أفسد عليه أمره في خفية، وخمرة الدنيا يحصل منها أنواع من الفساد منها السكر وذهاب العقل، ووجع البطن، والصداع، والقيء، والبول، ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة‏.‏

‏{‏وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزفُونَ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏ينزفون‏"‏ بكسر الزاي، وافقهما عاصم في الواقعة، وقرأ الآخرون بفتح الزاي فيهما، فمن فتح الزاي فمعناه‏:‏ لا يغلبهم على عقولهم ولا يسكرون يقال‏:‏ نزف الرجل فهو منزوف ونزيف، إذا سكر، ومن كسر الزاي فمعناه‏:‏ لا ينفد شرابهم، يقال‏:‏ أنزف الرجل فهو منزوف، إذا فنيت خمره‏.‏

‏{‏وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ‏}‏ حابسات الأعين غاضات الجفون، قصرن أعينهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، ‏{‏عِينٌ‏}‏ أي‏:‏ حسان الأعين، يقال‏:‏ رجل أعين وامرأة عيناء ونساء عين‏.‏

‏{‏كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ‏}‏ ‏[‏جمع البيضة‏]‏ ‏{‏مَكْنُونٌ‏}‏ مصون مستور، وإنما ذكر ‏"‏المكنون والبيض‏"‏ جمع لأنه رده إلى اللفظ‏.‏

قال الحسن‏:‏ شبههن ببيض النعامة تكنها بالريش من الريح والغبار، فلونها أبيض في صفرة‏.‏ ويقال‏:‏ هذا أحسن ألوان النساء أن تكون المرأة بيضاء مشربة صفرة، والعرب تشبهها ببيضة النعامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50 - 59‏]‏

‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏50‏)‏ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ‏(‏51‏)‏ يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ‏(‏52‏)‏ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ‏(‏53‏)‏ قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ‏(‏54‏)‏ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏55‏)‏ قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ‏(‏56‏)‏ وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ‏(‏57‏)‏ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ‏(‏58‏)‏ إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أهل الجنة في الجنة يسأل بعضهم بعضا عن حاله في الدنيا‏.‏

‏{‏قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من أهل الجنة‏:‏ ‏{‏إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ‏}‏ في الدنيا ينكر البعث‏.‏

قال مجاهد‏:‏ كان شيطانًا‏.‏ وقال الآخرون‏:‏ كان من الإنس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كانا أخوين‏.‏ وقال الباقون‏:‏ كانا شريكين أحدهما كافر اسمه قطروس، والآخر مؤمن اسمه يهوذا، وهما اللذان قص الله تعالى خبرهما في سورة الكهف في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏واضرب لهم مثلا رجلين‏"‏ ‏[‏الكهف - 32‏]‏‏.‏

‏{‏يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ‏}‏ بالبعث‏.‏

‏{‏أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ‏}‏ مجزيون ومحاسبون وهذا استفهام إنكار‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ الله تعالى لأهل الجنة‏:‏ ‏{‏هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ‏}‏ إلى النار، وقيل‏:‏ يقول المؤمن لإخوانه من أهل الجنة‏:‏ هل أنتم مطلعون إلى النار لننظر كيف منزلة أخي، فيقول أهل الجنة‏:‏ أنت أعرف به منا‏.‏

‏{‏فَاطَّلَع‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إن في الجنة كوًى ينظر أهلها منها إلى النار فاطلع هذا المؤمن، ‏{‏فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ‏}‏ فرأى قرينه في وسط النار، وإنما سمي وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ له‏:‏ ‏{‏تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ‏}‏ والله لقد كدت أن تهلكني، قال مقاتل‏:‏ والله لقد كدت أن تغويني، ومن أغوى إنسانا فقد أهلكه‏.‏

‏{‏وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي‏}‏ رحمته وإنعامه عليَّ بالإسلام، ‏{‏لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ‏}‏ معك في النار‏.‏

‏{‏أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِين * إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى‏}‏ في الدنيا ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ يقول هذا أهل الجنة للملائكة حين يذبح الموت‏:‏ أفما نحن بميتين‏؟‏ فتقول لهم الملائكة‏:‏ لا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60 - 66‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏60‏)‏ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ‏(‏61‏)‏ أَذَلِكَ خَيْرٌ نزلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ‏(‏62‏)‏ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ ‏(‏63‏)‏ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ‏(‏64‏)‏ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ‏(‏65‏)‏ فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

فيقولون ‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ وقيل‏:‏ إنما يقولونه على جهة الحديث بنعمة الله عليهم في أنهم لا يموتون ولا يعذبون‏.‏ وقيل‏:‏ يقوله المؤمن لقرينه على جهة التوبيخ بما كان ينكره‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ لمثل هذا المنزل ولمثل هذا النعيم الذي ذكره من قوله‏:‏ ‏"‏أولئك لهم رزق معلوم‏"‏ إلى ‏"‏فليعمل العاملون‏"‏‏.‏

‏{‏أَذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ ذلك الذي ذكر لأهل الجنة، ‏{‏خَيْرٌ نزلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ‏}‏ التي هي نزل أهل النار، والزقوم‏:‏ ثمرة شجرة خبيثة مرة كريهة الطعم، يكره أهل النار على تناولها، فهم يتزقمونه على أشد كراهية، ومنه قولهم‏:‏ تزقم الطعام إذا تناوله على كره ومشقة‏.‏

‏{‏إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ‏}‏ الكافرين وذلك أنهم قالوا‏:‏ كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر‏؟‏ وقال ابن الزبعري لصناديد قريش‏:‏ إن محمدًا يخوفنا بالزقوم، والزقوم بلسان بربر‏:‏ الزبد والتمر، فأدخلهم أبو جهل بيته وقال‏:‏ يا جارية زقمينا، فأتتهم بالزبد والتمر، فقال‏:‏ تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد‏.‏

فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ‏}‏ قعر النار، قال الحسن‏:‏ أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها‏.‏

‏{‏طَلْعُهَا‏}‏ ثمرها سمي طلعا لطلوعه، ‏{‏كَأَنَّهُ رُؤوسُ الشَّيَاطِينِ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هم الشياطين بأعيانهم شبه بها لقبحها، لأن الناس إذا وصفوا شيئًا بغاية القبح قالوا‏:‏ كأنه شيطان، وإن كانت الشياطين لا ترى لأن قبح صورتها متصور في النفس، وهذا معنى قول ابن عباس والقرظي، وقال بعضهم‏:‏ أراد بالشياطين الحيات، والعرب تسمي الحية القبيحة المنظر شيطانًا‏.‏

وقيل‏:‏ هي شجرة قبيحة مرة منتنة تكون في البادية، تسميها العرب رؤوس الشياطين‏.‏

‏{‏فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ‏}‏ والملء‏:‏ حشو الوعاء لا يحتمل الزيادة عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67 - 77‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ ‏(‏67‏)‏ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ ‏(‏68‏)‏ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ‏(‏69‏)‏ فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ ‏(‏70‏)‏ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ ‏(‏71‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏72‏)‏ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ‏(‏73‏)‏ إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ‏(‏74‏)‏ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ‏(‏75‏)‏ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ‏(‏76‏)‏ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا‏}‏ خلطًا ومزاجًا ‏{‏مِنْ حَمِيمٍ‏}‏ من ماء حار شديد الحرارة، يقال‏:‏ لهم إذا أكلوا الزقوم‏:‏ اشربوا عليه الحميم، فيشوب الحميم في بطونهم الزقوم فيصير شوبا لهم‏.‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ‏}‏ بعد شرب الحميم، ‏[‏‏{‏لإلَى الْجَحِيمِ‏}‏ وذلك أنهم يوردون الحميم‏]‏ لشربه وهو خارج من الحميم كما تورد الإبل الماء، ثم يردون إلى الجحيم، دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏يطوفون بينها وبين حميم آن‏"‏ ‏[‏الرحمن - 44‏]‏ وقرأ ابن مسعود‏:‏‏(‏ثم إن مقيلهم لإلى الجحيم‏)‏‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ أَلْفَوْا‏}‏ وجدوا، ‏{‏آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ‏}‏ يسرعون، قال الكلبي‏:‏ يعملون مثل أعمالهم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ‏}‏ من الأمم الخالية‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ‏}‏ الكافرين أي‏:‏ كان عاقبتهم العذاب‏.‏

‏{‏إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ الموحدين نجوا من العذاب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ‏}‏ دعا ربه على قومه فقال‏:‏ ‏"‏إني مغلوب فانتصر‏"‏ ‏[‏القمر - 10‏]‏ ‏{‏فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ‏}‏ نحن، يعني‏:‏ أجبنا دعاءه وأهلكنا قومه‏.‏

‏{‏وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ‏}‏ ‏[‏الغم العظيم‏]‏ الذي لحق قومه وهو الغرق‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ‏}‏ وأراد أن الناس كلهم من نسل نوح‏.‏

روى الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ لما خرج نوح من السفينة مات من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم قال سعيد بن المسيب‏:‏ كان ولد نوح ثلاثة‏:‏ سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان، ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78 - 89‏]‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ ‏(‏78‏)‏ سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ‏(‏79‏)‏ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏81‏)‏ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ ‏(‏82‏)‏ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ ‏(‏83‏)‏ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ‏(‏84‏)‏ إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ‏(‏85‏)‏ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ ‏(‏86‏)‏ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏87‏)‏ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ‏(‏88‏)‏ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ أبقينا له ثناءً حسنًا وذكرًا جميلا فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة‏.‏

‏{‏سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ سلام عليه منا في العالمين‏]‏ وقيل‏:‏ أي تركنا عليه في الآخرين أن يصلى عليه إلى يوم القيامة‏.‏

‏{‏إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ جزاه الله بإحسانه الثناء الحسن في العالمين‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ‏}‏ ‏[‏يعني الكفار‏]‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ أهل دينه وسنته‏]‏‏.‏ ‏{‏لإبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ مخلص من الشرك والشك‏.‏

‏{‏إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ‏}‏ استفهام توبيخ‏.‏

‏{‏أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ أتأفكون إفكًا وهو أسوأ الكذب وتعبدون آلهة سوى الله‏.‏

‏{‏فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏- إذ لقيتموه وقد عبدتم غيره - أنه يصنع بكم‏.‏

‏{‏فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم من حيث كانوا لئلا ينكروا عليه، وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة، وكان لهم من الغد عيد ومجمع، وكانوا يدخلون على أصنامهم ‏[‏ويقربون لهم القرابين‏]‏، ويصنعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم - زعموا - للتبرك عليه فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه، فقالوا لإبراهيم‏:‏ ألا تخرج غدا معنا إلى عيدنا‏؟‏ فنظر إلى النجوم فقال‏:‏ إني سقيم، قال ابن عباس‏:‏ مطعون، وكانوا يفرون من الطاعون فرارًا عظيمًا‏.‏ قال الحسن‏:‏ مريض‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ وجع‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ سأسقم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90 - 98‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ‏(‏90‏)‏ فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ‏(‏91‏)‏ مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ ‏(‏92‏)‏ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ‏(‏93‏)‏ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ ‏(‏94‏)‏ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ‏(‏95‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏96‏)‏ قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ ‏(‏97‏)‏ فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ‏}‏ إلى عيدهم، فدخل إبراهيم على الأصنام فكسرها‏.‏ كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ‏}‏ مال إليها ميلة في خفية، ولا يقال‏:‏ ‏"‏راغ‏"‏ حتى يكون صاحبه مخفيًا لذهابه ومجيئه، ‏{‏فَقَال‏}‏ استهزاء بها‏:‏ ‏{‏أَلا تَأْكُلُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الطعام الذي بين أيديكم‏.‏

‏{‏مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ‏}‏ مال عليهم، ‏{‏ضَرْبًا بِالْيَمِينِ‏}‏ أي‏:‏ كان يضربهم بيده اليمنى لأنها أقوى على العمل من الشمال‏.‏ وقيل‏:‏ باليمين أي‏:‏ بالقوة‏.‏ وقيل‏:‏ أراد به القسم الذي سبق منه وهو قوله‏:‏ ‏"‏وتالله لأكيدن أصنامكم‏"‏ ‏[‏الأنبياء - 57‏]‏‏.‏

‏{‏فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ إلى إبراهيم ‏{‏يَزِفُّونَ‏}‏ يسرعون، وذلك أنهم أخبروا بصنيع إبراهيم بآلهتهم فأسرعوا إليه ليأخذوه‏.‏

قرأ الأعمش وحمزة‏:‏ ‏"‏يزفون‏"‏ بضم الياء وقرأ الآخرون بفتحها، وهما لغتان‏.‏ وقيل‏:‏ بضم الياء، أي‏:‏ يحملون دوابهم على الجد والإسراع‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ لهم إبراهيم على وجه الحجاج‏:‏ ‏{‏أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ما تنحتون بأيديكم‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ بأيديكم من الأصنام، وفيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى‏.‏

‏{‏قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ‏}‏ معظم النار، قال مقاتل‏:‏ بنوا له حائطًا من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعًا، وعرضه عشرون ذراعًا، وملؤوه من الحطب وأوقدوا فيه النار وطرحوه فيها‏.‏

‏{‏فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا‏}‏ شرًا وهو أن يحرقوه، ‏{‏فَجَعَلْنَاهُمُ الأسْفَلِينَ‏}‏ أي‏:‏ المقهورين حيث سلَّم الله تعالى إبراهيم ورد كيدهم‏.‏